تفسير الشعراوي للآية 146 من سورة الأنعام
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(146)}.
هنا يأتي الحق بالتحريم الثاني، وهو التحريم للتهذيب والتأديب، مثلما قال من قبل: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ…} [النساء: 160].
ف (الظُفُر) هو ما يظهر عنا ننظر إلى أقدام ب الحيوانات أو الطيور، فهناك حيوانات نجد تشقق إصبعها ظاهراً والأصابع مفصلة ومنفرجة بها عن ب، فهذه ليست ا عليهم، ونوع آخر نجد أصابعها غير مفصولة وغير منفرجة مثل الإبل، والنعام، والبط، والأوز وهي ذو الظفر. فكل ذي ظُفُر حرم على اليهود، وقد حرم عليهم لا لخبث وضرر في المأكول، ولكن تأديبا لهم لأنهم ظلموا في أخذ غير حقوقهم؛ لذلك يحرمهم الله من ب ما كان حلالا لهم؛ فالأب ابنه الذي أخذ حاجة أخيه اعتداء؛ فيمنع عنه المصروف، والمصروف في ذاته ليس اً، ولكن المنع هنا للتأديب. والحق هو القائل: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل…} [النساء: 160-161].
ولأنهم فعلوا كل ذلك يأتي لهم التحريم عقاباً وتأديباً {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
وأنت حينما تذبح الذبيحة تجد باً من الدهن على الكلى، ونجد في داخلها ما يسمونه (منديل الدهن) وكذلك (ألية الخروف)، وحين ت الرأس تجد فيها نوعاً من الدهون، وقد حرّم الحق عليهم في البقر والغنم شحومهما، وكذلك {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} كله. وهناك استثناء في البقر والغنم هو: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ}.
أي أحل لهم ما هو فوق الظهر من الشحم، وأحل لهم ما ته الحوايا من الشحوم و(الحوايا) جمع حوية أو حاوية أو حاوياء أو حاوياء وهي ما تحوّي من الأمعاء أي تجمع واستدار، وفي الريف تقول المرأة عن ة القماش التي تبرمها وتلفها وتصنع منها دائرة مستديرة تضعها على رأسها لتحميه عنا ت فوقه الأشياء؛ تقول: صنعت (حواية) والحواية هنا هي الأمعاء يظة، وطولها كذا متر، ومن حكمة تكوينها الربانية نجدها تلتف على بها، ولذلك اسمها (الحوايا)، وهي ما نسميه (الممبار). وكذلك حلل لهم ما اختلط بعظم في القوائم والجنب والرأس والعين، وكذلك أحل لهم ش اختلط بعظم منه الألية، لأن الألية تمسك بعَجْب ال. أي أصله، وهو الجُزَيْء في أصل الذّنب عند رأس العُصْعُص. ولأنه رحيم فهو ينزل عقوبة فيها الرحمة فيبيح له شيئا ويحرم شيئا آخر.
ويذيل الحق الآية بقوله: {ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
وليس هذا التحريم تعدًّيا عليهم، أو تعنتاً في معاملتهم، بل لأنهم بَغَوْا، والباغي يجب أن يأخذ حظه من الجزاء؛ حتى يفكر ماذا يحقق له البغي من النفع، وماذا يمنع عنه من النفع أيضاً، وحين يقارن بين الاثنين قد يعدل عن بغيه، وهم قد صدّوا عن سبيل الله، وأخذوا ربا لينمّوا أموالهم وأكلوا أموال الناس بالباطل، لذلك حرّم عليهم الحق ب الحلال. وسبحانه صادق في كل بلاغ عنه، ونعرف بذلك أن علة التحريم لب الحلال كانت بسبب ظلمهم وما بدر منهم من المعاصي فكان التحريم عقوبة لهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ…}.